أما عن القاهرة الجميلة؛ فيأبى قمرها السكون، ويظل يبعثُ لحاله، منذ عدة ليال، بصغار الميدان، لكسر صفاء عواء الكلاب في مدى المدينة الليلي الواسع. يملأ هؤلاء الصغار الشارع بالألوان؛ انتهى عصر اللون الزيتي والرمادي والبناطيل القماش. وفي الشارع الواحد؛ قد تجد عزاءاً فاخراً في مسجد عمر مكرم لميتٍ مات على سريره، زغاريط أمسية فرح في الحي المقابل، ورسّاماً ينقش على الحائط تحديد وجه شهيدٍ مات لتوه بإصابة رصاص في الدماغ.
وبين ذلك وذاك، سائق توصيل طلبيات ”بيتزا هت“ يحاول جاهداً اختراق الغاز المسيل، لتوصيل البيتزا ساخنةً للحي على الجانب القريب. القاهرة كما ترى، لاتزال تدفئنا بصوتها في بوادئ الشتاء...وفي نهارها التالي، قد تغمي شمسها قليلاً، فتتماشى سماؤها مع غيام الغاز المسيل للدموع ... وكأنهم واحد، فلا يُلاحظ الفرق.
وبين كل ليلة وليلة، تحمل على واحد من كفيها صغار الميدان؛ يدفئون ليل قلب المدينة بوهج المولوتوڤ الطازج، ويصفقون ويعلو صوتهم خلال أحاديثهم المتقطعة المتفرقة، فأحاديثم هي في الأصل غناء. وإذا أخذت خطوة واحدة للجوار، تجد نفسك على كفها الآخر؛ حيث يجتمع المخبرون مع ضباط الأمن المركزي، في ظلال شارع القصر العيني، ليسلّوا ليلهم المقيت بحملقة فارغة في كون كل زائرٍ يتمشّى الشارع، فالتمشية عندهم حرام.
وبين كفتيها، لن يكون كُلّك في جنةٍ، ولا كُلّك في جحيم؛ فأنت نصفُ نصفِ من كل شيء في ذات الوقت. وتمسي عليك المدينة مرة زائدة بالسلام، وتدعك تصل بيتك في النهاية بأمان، لكنها تأبى أن تتركك وأنت كلٌ من أي شيء. فلو نمت ليلها مرةً وأنت كلٌ من شيء واحد، فاعلم ... قد نسيتك القاهرة الجميلة.